بينالي فينسيا – The Venice Biennale

التنسيق الحضاري

هذه القصة بعنوان ” عبث” أو  “بينالي فينسيا” أو “فاروق حسني و لقمة القاضي” أو “رحلة معماري لتمثيل مصر”:

بدأ اليوم باستيقاظ متأخر كالعادة ..

نزلت مسرعاً متجهة إلى القلعة للتسجيل بمسابقة بينالي فينسيا و التى وصف لي صديقة هذه المهمة (مهمة التسجيل) أنها One Shot فهو آخر يوم للتسجيل. كانت مفاجئة أولى لي أن أدرك أن مباني القلعة ليست فقط متاحف و مساجد و إنما أيضا هيئات حكومية ولم أكن متخيل كيف سأتحدث لأحد الحراس و أسألهم عن المسابقة و كيف سيستوعبني إذا ذكرت له إسم “بينالي فينسيا” الإسم الذي -للأسف- عرفته لاحقاً ولكن ساعدنى الأمر أني أدركت مؤخراً أني سأسدد رسوم الإشتراك بجهاز التنسيق الحضاري.

أدرت محرك سيارتي في تمام الساعة 9:30 و سلكت طريق صلاح سالم و الذي لم يكن مزدحماً رغم أننا يوم الأحد فوصلت لوجهتي في تمام الساعة 9:50 فابتسمت و قلت لنفسي بصوت مسموع:

-ح اخلص بسرعة ان شاء الله في 10 دقائق و اشد ع الشغل اوصل 10:30 من غير تأخير .. بس ربنا يستر و السيده عيشة متكونش مقفولة..

حاولت دخول القلعة بالسيارة فمنعني الأمن و ذكر لي أنه لابد من وجود التصريح حتى إذا كنت متجه إلى جهاز التنسيق الحضاري و لست بزائر ، أنصعت لأوامر “الصول” محاولاً إيصال له صورة إنسانية عن رد فعل المواطن إذا عامله بإحترام و بعد 150 م أوقفت السيارة فوق رصيف أحد المنازل (اتضح لي أنه مكان مخصص لوقوف السيارات بالفعل و أني لست بمخالف ، بل أن أمن القلعة يوجهك لهذا الرصيف بإعتباره أقرب مكان مخصص للوقوف يخدم القلعة و سائحيها).

وجدت غرفة صغيرة أدركت لاحقاً انها غرفة “التفتيش عن المعادن و المفرقعات”  فدخلتها مرتاباً فوقعت عيني على أحد المفرقعات .. “طرشي و بتنجان مخلل” على المكتب . قام أحد العساكر و فتشني تفتيشاً ذاتياً  متجاهلاً أجهزة الكشف عن المعادن ثم خرجت من غرفة “المفرقعات”.

صعدت المنحدرات و ظللت أسير لمدة 20 دقيقة داخل القلعة و اكتشفت طرق و مباني لم أرها من قبل . معظم هذه المباني كان مغلقاً أو مهجوراً لا سيما أنها بعيدة عن الرائين و الزائرين. و أخيراً وصلت لمرادي في تمام الساعة 11:10.

تم تفتيشي مرة أخرى للدخول إلى جهاز التنسيق الحضاري و تركت إثبات شخصيتي (و لم يزعجني هذا ولا ذاك فالكل يعلم أن مصر تحارب الإرهاب لتصبح “اد الدنيا”).

أخيراً و ليس آخراً وصلت لجهاز التنسيق الحضاري و دخلت الصالة التى تحتوي على 10 مكاتب كلها خالية من الشاغرين ما عدا مكتبين جلس عليهما رجل و إمرأه يبدو عليهم الإلتزام بالمواعيد نظراً لكبر سنهم لا أكثر. نظرت إلى تلك السيدة  ذات الملامح المصرية و وجه الأم  و هي تتناول فطورهاالطيب:

– تعالى يا ابني عايز ايه ؟

امتلأ قلبي سروراً لإستجابتها السريعة لي فلم أجد الطوابير و لم ألقى التجاهل المعتاد فأجبتها بإبتسامة عريضة حقيقية متجاهلاً رائحة البصل و متجاهلاً فكرة تناول الفطور في محل عملها أو حتى عدم البدء في العمل بعد ساعتين من بدء العمل (سأعرف فيما بعد أن هذا الجهاز يبدأ عمله من الساعة العاشرة صباحاً):

– سلام عليكم .. خلي حضرتك كملى فطار و انا مستني برا

-لا يا ابني تعالى تعالى مش عايزه اعطلك تعالى قولي عايز تعمل ايه

وقعت هذه الجملة على مسامعي وقع ممتع جعلى روحي ترفرف في السماء و ابتسمت اكثر و اكثر و نسيت كل ما مر بي من أول يومي و ذهبت لها في إهتمام:

– حضرتك انا كنت بس عايز ادفع اشتراك مسابقة بينالي فينسيا

– ايه .. بينابي فينسيا .. هي لسه مفتوحة؟

نظرت لها و كدت أن أفقد عقلي لولا أن أحد الأفراد صاح من آخر الحجرة:

– يا استاذه سوسن المسابقة اتمدت اسبوع

فأدرت رأسي لأرى هذا الشاب الذي أنقذني مما أنا فيه فرأيت شاباً في الثلاثينيات دخل المكتب لتوه و رأيت على شاشته لعبة “كاندي كراش” فابتسمت ساخراً و شاكراً في ذات الوقت و شكرته فتابعت السيده:

– طيب ماهو مش انا أصلاً اللى متابعة المسابقة

دارت في رأسي العديد من الردود التى لم أستطيع أن انطق أي منها فهي مهمة الـOne Shot فقلت لها :

– طب اعمل ايه !

– اقعد يا ابني على مكتب الاستاذ هنا لحد ما يجي استاذ اسامه و انا ح اكلمهولك

– ربنا يخليكي يا رب

مازالت علاقتي بها طيبة رغم كل شئ فهي الوحيدة التى تحاول مساعدتي. جلست على مكتب “الأستاذ” و قد امتلأ المكتب بالموظفين الذين يتناولون إفطارهم وبعد العديد من العزومات استقر طعام كل موظف في فمه و تناثراً على مكتبه ورائحة البصل لم تفارق هذا المكتب الجيد التهوية – فهو أحد المباني القديمة- فأمر الأستاذ أخيراً الجندي المصاحب لي طوال هذه الرحلة أن ينصرف فقد تولى هو أمري. مرة أخرى إبتسامه سخيفة على وجهي للشكر على خدمة هي من حقي أو للسخرية من وضع ليس علي بجديد. وهنا بدأت خطبة الأستاذ التى تمحور حولها يومي:

– ازاي حضرتك يا استاذ اخبار حضرتك ايه ؟ … حضرتك خريج ايه بقى

– هندسة  عمارة (ابتسامة سخيفة)

-يا اهلا يا اهلا بيك .. عارف حضرتك احنا هنا مش ح تلاقينا زي اي مطان حكومي لا معندناش احنا الروتين الجامد ده لا اطلاقاً يعني عندك مثلاً تاورقة الواحدة عشان تطلع كذا حد بيمضي عليها  الموضوع مش واقف على واحد .. يمكن عشان كده محدش بيلبس او يتمسك هاهاهاها

ضحكات سخيفة أيضاً .. لكن بعد أن يدرك اني لم أستوعب العلاقة يكمل شارحاً:

– يعني مثلاً فاروق حسني ده كان من أنشط و أنجح الوزرا اللى مسكو وزارة الثقافة حضرتك

فنظرت لها ممتعضاً غيير مكترث بشرحه أو تفسيره حتى لو حاول إثبات أن مبارك رجل الثورة لم أكن أنتوي أن أجادله كثيراً ولكنه إستغل ردة فعلى ليشرح لي  :

– مش مصدقني ليه ؟ فعلاً ده أنشط وزير مسك .. هو اه في الأمور الإدارية كان راميها على اللى تحتيه و مش بيسأل فينا بس برده كان نشيط

صمت  لبرهة ثم أكمل:

– ايوه هو حرامي و سرق و كان مركز مع الهانم الكبيرة بس برده كان نشيط .. أصل انت عارف حضرتك البلد كان اللى ماسكها شوية حراميه.. عارف انت اللى بيعمل لقمة قاضي كان ايه كان بيتكا على العجين و يغرف يتكا و يغرف يتكا و يغرف .. هما بقى كانوا بيعملوا كده بقى اهون … ولما يخلصو غرف ينادونا احنا نلحس بواقي الطاسة

لم أستوعب العلاقة بين نشاط هذا الوزير و كل هذا الشرح و لكنه لم يكترث و أكمل:

– أصل حضرتك احنا برده غير أي هيئة احنا معندناش روتين اوي زي الباقي يعني

فحاولت مجاراته لمجرد عدم إحراجه فمضى وقت طويل لم أرد بغير إبتسامات كاذبة:

– المفروض فعلاً مايكونش في روتين الناس كلها هنا شباب و الجهاز جديد

فأكمل حديثه كأنه وجد فرصة ليبدأ موضوع آخر:

– ايوة حضرتك احنا من 2004 بس يعني .. يعني مثلاً ح تلاقى على كل جهاز واحد فينا كومبيوتر مش زي اي هيئة او جهاز تاني يعني …

فنظرت حولي فوجد أجهزة حاسب على جميع المكاتب إلا مكتبه: فشعر بالإحراج فأكمل سريعاً :

– أما أنا فجهازي جاي في السكة ان شاء الله … مش كده يا حسين هاهاهاهاها

و نظر لزميله المجاور المسئول عن الحسابات و الذيي بدأ في تناول فطوره للتو . كأن هؤلاء الموظفين يحاولوا ان يحافظوا على رائحة البصل أكبر فترة ممكنة في المكتب فهم يتتناوبون على فطورهم شخص تلو الآخر. ثم أكمل:

– احنا هنا مرتباتنا حلوة اوي .. اه .. يعني بتوصل لـ 5000 و 6000 حضرتك .. اينعم دول دلوقتي مايعملوش حاجة .. دلوقتي كيلوا البطاطس بـ 6 جنيه .. يعني حتى أكل الغلابة بقى غال .. نعمل ايه بس

قطع هذا الحوار الممتع الشيق نداء الأستاذة سوسن معلنةً انتهائها من الفطور فقمت لأتجه إليها وقد مرت عيني على جميع المكاتب وشاهدت جميع أجهزة الحاسب التى تمتلئ شاشتها بصفحات الـ Facebook ثم جلست على مكتبها فقالت لي:

– دلوقتي استاذ أسامة مش جاي النهارده فانا ح اطلعلك اذن دفع و روح ادفع انت بقى في الخزنة

مرة أخرى أحاول السيطرة على ردود أفعالى و آخذ إذن الدفع و إتجه إلى الخزينة المتواجدة في غرفة خارجية منفصة عن المبنى.

بعد دخولى الخزنة أجد رجلاً عجوزاً كأنه أُختَير خصيصاً بهذا السن لمهمة الخزنة فنظر لي منزعجاً وقال:

– عايز ايه يا ابني ؟

وبعد أن أدرك مرادي حاول فتح الخزينة التى تم لصق أرقامها السرية بـ “شيكارتون” أصفر حتى لا يحاول أحد تغييرها فحاول فتحها بالمفتاح متمتماً :

– هما غيروا المفتاح ولا ايه .. ولا واحد راضي يفتح

ثم انفتح أخيراً أبوابها و أخرج الوصلات و الأموال و استلم منى المبلغ المراد و اخذ يبحث عن قلمه و قال لي معتذراً:

– معلش يا ابني أصل أنت جاي بدري أوي

فنظرت إلى الساعة فوجدتها 11:20 فصُدمت و أخذت الوصل و عدت مرة أخرى للأستاذة سوسن وسألتها عن باقي الإجراءات فاتصلت بالأستاذ أسامة الذي ساعدنى كثيراً و خرجت من هذا المكان القمئ متجهاً لسيارتي أفكر في كل هذا العبث الذي مررت به و الوقت الذي ضاع من يومي مستمعاً للنقاشات الغير ممتعة و مستنشقاً روائح البصل المالئة للفراغ .

لم أستطيع أن أدقق في المبنى نفسه أو الفراغات المتواجدين بها و التى كنت متشوقاً لفحصها كما أني لم أشعر بطول طريق صلاح سالم في العودة لإنغماسي في التفكير في هذا العبث.

وأخيراً اتصلت بصديقي معلناً له نجاح الـ One Shot Mission و أخبرته أنه من الجيد ألا تتقدم بأوراق المسابقة بنفسك لأن هذا سيؤثر على تصميمك ..

إذا كان هذا ما فعلته كمعماري شاب طموح للوصول للعالمية و تمثيل مصر .. فماذا ينتظرون مني ؟

ااه … أبو الهول و الأهرامات

اااه .. حاضر

…..

لنا لقاء آخر مع منتجات هذا الجهاز “القومي” .. مع محطة مصر أو النصب التذكاري

——————————————————————————-

ملاحظة : هذه التدوينة تم كتابتها في جلسات منفصلة أولها 1/12 و آخرها 5/12